موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٣

قُلْ الحقَّ ولا تَخَفْ

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني عشر من السنة: قُلْ الحقَّ ولا تَخَفْ (متى 10: 26-33)

الأحد الثاني عشر من السنة: قُلْ الحقَّ ولا تَخَفْ (متى 10: 26-33)

 

النص الإنجيلي (متى 10: 26-33)

 

26 ((لا تَخافوهُم إِذاً! فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم. 27 والَّذي أَقولُه لَكم في الظُّلُمات، قولوه في وَضَحِ النَّهار. والَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم، نادوا بِه على السُّطوح. 28 ((لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم. 29 أَما يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إِلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم. 30 أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه. 31 لا تَخافوا، أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعاً.  32 ((مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات. 33 ومن أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات.

 

 

مُقدَّمة

 

يُسلط إنجيل الأحد الأضواء على توصيات يسوع لتلاميذه الذين أرسلهم للتبشير بإنجيله الطاهر (متى 10: 26-33) ليكونوا على استعداد للرفض الذي سيتعرض له الكثيرون منهم كونهم تلاميذه. فهو يطلب منهم الثقة بعناية الله المُحِب من ناحية، وقول الحق بدون خوف والشهادة لله تعالى بالرغم من الاضطهادات من ناحية أخرى. يدعونا يسوع إلى التحلي بالجُراءة وعدم الخوف بالتبشير بكلمته نظرًا لعلاقتنا مع الله الآب والثقة به وبوعده، إذ يمنحنا الحياة، والقوة، والأمل والسلام الداخلي.  إن هذه الدعوة إلى عدم الخوف هي مركزية أنجيل يسوع. علاقتنا مع الآب، التي تمنح الحياة يقينًا نهائيًا، وأملًا لا يتزعزع: ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 10: 26-33)

 

 26 ((لا تَخافوهُم إِذاً! فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم.

 

تشير عبارة "لا تَخافوهُم" في الأصل اليوناني φοβηθῆτε وفي العبرية תִירְאוּ (معناه المخافة التي تختلف عن خوف العبيد) إلى القلق والاضطراب تحسبًا لوجود تهديدات محتملة (متى 10: 26) أو أذى جسدي (متى 10: 28) أو سخرية علنية أو رفض ذويهم لهم (متى 10: 34-37)، كل ذلك قد يؤدِّي إلى التوتر، ويُكرِّر يسوع هذه العبارة ثلاث مرات في هذا النص كي يؤكد لنا أن الله حاضر في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا. فلا تسقط شعرة من رؤوسنا دون علمه تعالى. إنه تعالى يحب كل خلائقه، وكم بالأحرى الإنسان الذي اتَّخذه ابنًا حبيبًا وتلميذا مرسَلاً. لانَّ الحبّ الكامل ينفي الخوف، خوف العبيد والخشية من القصاص، كما يؤكد لنا يوحنا الرسول "لا خَوفَ في المَحبَّة بلِ المَحبَّةُ الكامِلةُ تَنْفي عَنها الخَوف لأَنَّ الخَوفَ يَعْني العِقاب ومَن يَخَفْ لم يَكُنْ كامِلاً في المَحَبَّة" (1يوحنا 4 :18). ويعلق البابا فرنسيس "لا تخافوا!" عبارة مطمئنة ولكنها في الوقت عينه دعوة ليغيّر المرء حياته". أمَّا عبارة "فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف" فتشير إلى سر الله الخَفي الذي يكشف عنه يسوع في أول الأمر للتلاميذ؛ أمَّا عبارة "ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم" فتشير إلى قول مشهور يستعمله السيد المسيح هنا لبيان انتشار الكرازة، أنَّ سر الملكوت لا بدَّ أن يُعلن. المستور والمكتوم يشيران إلى سر يسوع وملكوته التي يُعلن، كما ورد في المزمور  يُظهِر كالنُّورِ بِرَّكَ وكالظَّهيرة حَقَّكَ" (مزمور 37: 6). والمسيح لم يكن له تعاليم سرية تخصّ بعضًا من الناس وتكون سرًا على العامة، إنما أراد يسوع كنيسة واضحة المعالم مكشوفة الأوراق وذات الشفافيّة؛ وقد تشير هذه الآية أيضا من ناحية أخرى إلى كل مؤامرات الفريسيين في الظلمة أصبحت مكشوفة في نور المسيح ، وتشير أيضا إلى شر الشيطان الذي يفضحه الرَّب، كما جاء في تعليم بولس الرسول "خَلَعَ أَصحابَ الرِّئاسةِ والسُّلْطان وشَهَّرَهم فسارَ بِهِم في رَكْبِه ظافِراً " (قولسي 2: 15) أمَّا الأبرار فيظهرون بالمجد "فإِذا ظَهَرَ المسيحُ الَّذي هو حَياتُكم، تَظَهَرونَ أَنتُم أَيضًا عِندَئِذٍ معَه في المَجْد"(قوسي 3: 4) . ونجد هنا السبب الأول لعدم الخوف هو أنَّ التلميذ هو الشاهد للكلمة وخادم لها ليس مصدرها، فالكلمة لها قوة وحيوية في حد ذاتها، كي تنمو وتنضج تمامًا مثل البذرة. وتلميذ الرَّب هو مجرّد خادم يزرع الكلمة في كل مكان، ولا يستطيع إلاّ أن يشهد على قوَّتها وحيويِّتها.

 

27 والَّذي أَقولُه لَكم في الظُّلُمات، قولوه في وَضَحِ النَّهار. والَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم، نادوا بِه على السُّطوح.

 

تشير عبارة "أَقولُه لَكم في الظُّلُمات" إلى أقوال السيد المسيح التي يُعلِّمها لتلاميذه على انفراد في الخُفيَّة، وفي الأماكن الهادئة وفيها نور خافت، أو في جلسات المسيح مع تلاميذه في الخفاء أثناء الليل. وأمَّا عبارة "قولوه في وَضَحِ النَّهار" فتشير إلى ضرورة أن يُكرِّر التلاميذ علنًا بكل ما سمعوه من السيد المسيح وما علمه الآن للتلاميذ سرًا، يتوجب عليهم أن يذيعوه أمام الكل. وبمفهوم متى الإنجيلي إن واجب المُرسَل أن يُعلم بكل ما سمعه من المسيح، وأن تكون حياته نقيَّة مُتفقة مع ما يُعلم به، وألاّ تكون له تعاليم سرِّية خفيَّة مستورة ومُخفاة مكتومة. أمَّا عبارة "الَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم" فتشير إلى كلام مجازي جاري مجرى المثل يراد به المخاطبات السرِّية ويراد به هنا ما قاله المسيح لتلاميذه فقط في جلسات خاصة.  أمَّا عبارة "نادوا بِه على السُّطوح" فتشير إلى المكان المألوف في الشرق للمحادثات ونشر الأخبار. فاستعمال السطوح يدلُّ على ضرورة سماع الجميع، لانَّ ملكوت الله للجميع. كان تعليم يسوع في البدء للتلاميذ ومن التلاميذ إلى الشعب اليهودي. بعد أنَّ كانت رسالة يسوع في البدء محصورة في الشعب اليهودي تتجّه الآن إلى جميع الشعوب.  فبعد أن كان صوت التلاميذ خافتا وسرِّيا قبل العنصرة، انطلق في زمن الكنيسة وأصبحت الكرازة علنية على السطوح لجميع شعوب الأرض. وهكذا تنتشر الكرازة ليؤمن الكل. ومن هذا المنطلق، إنَّ مقاومة العالم من قبل التَّلاميذ تكون واسطة انتشار الحق؛ فالذي علَّمهم إياه المسيح ليس بكنز يخفونه لأنفسهم، بل هو نور يُنشر ليبدِّد الظلام.

 

 28 ((لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم.

 

تشير عبارة "لا تَخافوا" إلى تكرار الخوف مرة ثانية مما يُذكِّرنا كلام أشعيا "ولا تَخافوا خَوفَهم ولا تَفزَعوا" (أشعيا 8: 12)، ويدل هنا على الخوف الذي كان مسيطرا على التلاميذ بسبب الضيق والاضطهاد. يوصي يسوع هنا بعدم الخوف والاضطراب من الاضطهاد، كما يؤكد ذلك بطرس الرسول " لا تَخافوا وَعيدَهم ولا تَضطَرِبوا" (1 بطرس 3: 14)، وكذلك يوحنا الرسول يوصي مؤمني كنيسة أزمير بقوله "لا تَخَفْ ما ستُعاني مِنَ الآلام. ها إِنَّ إِبْليسَ يُلْقي مِنكُم في السِّجنِ لِيَمتَحِنَكم، فتَلقَونَ الشِّدَّةَ عَشرَةَ أَيَّام. كُنْ أَمينًا حَتَّى المَوت، فسأعْطيكَ إِكْليلَ الحَياة" (رؤيا 2: 10). أمَّا عبارة "الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد" فتشير إلى الأعداء الذين قد يكونون من السلطات (متى 10: 18-19)، أو مِن بين أهل بيت التلاميذ وذويهم (متى 10: 21)، أو من قساة القلوب الذين استمعوا إلى كلمات الرَّب ولكنَّهم يدّعون معرفة طرق الخلاص (متى 10: 17) فاخذوا يحتجزون شهود الكلمة ويزدرونهم ويزُّجونهم في السجن ويقلتونهم. هذا هو مصير تلميذ الرَّب والشاهد للحق، ومصير الّذين يقفون وسط الناس بقلب مستقيم، مُتَّجهين نحو الرَّبّ. ويعلق البابا فرنسيس "المسيحيّون يُحبّون، ولكنّهم ليسوا مَحبوبين على الدوام. يضعنا يسوع منذ البداية أمام هذا الواقع: إعلان الإيمان يتم في جوّ من العِدائيّة" (عظة 28 /6/ 2017‏). أمَّا عبارة "الجَسد" في الأصل اليوناني σῶμα فتشير إلى السبب الثاني لنفي خوف التلاميذ من أعدائهم الأشرار، إذ أنَّ قوة ضررِهم على الجَسد فقط، لا على النَّفس، لأنَّه ليس هناك سيّد يتحكم بحياة التلاميذ، وليس لأحد السلطة المُطلقة على حياتهم. يمكن العدو أن يقتل التلميذ جسديًا (متى 10: 28)، لكن لا يستطيع قتل نفسه، أو انتزاع روحه. وهذا دليل على أنَّ النَّفس لا تموت مع الجَسد؛ أمَّا عبارة "النَّفس" في الأصل اليوناني ψυχὴν فتشير إلى مبدأ الحياة لكل جسد، وتدلّ على شخصية الإنسان أو هويِّته الذاتية؛ أمَّا إنجيل لوقا لا يُميِّز بين الجَسد والنَّفس، ولا يذكر إلاّ الجَسد" لا تَخَافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ثُمَّ لا يَستَطيعونَ أَن يَفعَلوا شَيئاً بَعدَ ذلك (لوقا 12: 4). يستطيع المُضطهدون أن يقتلوا الجَسد فيحرمون المؤمنين الحياة على هذه الأرض، ولكنهم لا يستطيعون حرمانهم من الحياة مع الله. أمَّا عبارة "بل خافوا" في الأصل اليونانيφοβεῖσθε   فتشير إلى الخوف من الله لا من الشيطان، لانَّ لله وحده السلطان أنْ "يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم"، وغالبًا ما ركّز لوقا الإنجيلي على هذا الأمر (لوقا 1: 50، 18: 2، 2: 40).  ولا تِرد آية يُقال فيها أن نخاف الشيطان وإنَّما أن نقاومه بشدَّة "قاوِموا إِبليسَ يُوَلِّ عنكُم هارِبًا" (يعقوب 4: 7)؛ فمن يخالف أوامر الله ويُهمل واجباته خوفًا من الناس يجلب على نفسه وجسده خوفًا أعظم، لانَّ لله قوة على النَّفس والجَسد إلى الأبد بان يهلكهما في جهنم؛ لا داعي للخوف من الرّوح الشرير فهو أضعف من رّوح الله. علينا الاتِّحاد بالرّبّ والثقة بأنه حاضر بالرغم من كل صراع فينا. والخوف الوحيد الممكن لتلميذ الرب هو فقدان العلاقة معه تعالى. أمَّا عبارة "جَهنَّم" في الأصل اليوناني γέεννα مشتقة من العبرية גֵיהִנּם، فتشير إلى اسم وادي هنّوم الواقع في جنوب اورشليم حيث كانت فيه النيران مشتعلة دوما لحرق نفايات المدينة. وفي ذلك صورة للهلاك الأخير الذي يدل على الموت الثاني أي الهلاك الأبدي. ونجد في هذه الآية المفارقة بين هذا العالم والعالم الآتي. ورأى يسوع هنا أن الاضطهاد من نصيب المؤمنين، لذلك يطلب منهم ألاّ يخافوا من يقتل الجَسد. لا تخافوا، هو وعد الله الذي لا يزال يهمس به في قلوبنا وحياتنا، وله وحده الكلمة الأخيرة.

 

29 أمَّا يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم.

 

تشير عبارة "فَلْس" في الأصل اليوناني ἀσσάριον ربع، وبالعبرية אִסָּר (تعني ربع آس)، إلى الفلس الروماني في زمن سيدنا يسوع المسيح الذي هو جزء من ستة عشر جزءًا من الدينار وقيمته نحو أربعة مليمات ونصف. وهي من أصغر النقود الرومانية المتداولة في ذلك الوقت؛ وأصبح الفلس يُشكِّل الجزء المئوي من عدة عملات عربية حديثة، وفي بعض اللهجات يقصد أيضا بكلمة "فلوس" النقود بشكل عام؛ أمَّا عبارة "أما يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟" فتشير في إنجيل لوقا إلى خمس عصافير بفلسين (لوقا 12: 5). ويبدو أن أربعة عصافير كانت تباع بفَلسين ويعطى لمن يشترى أربعة، عصفورًا زيادة البيع مجانًا، فحتى هذا العصفور الذي بلا ثمن لا ينساه الله. وبناء على ذلك إذ ا كان الله يعتني بأصغر خلائقه بما فيها الطيور، كم بالحري يعتني بالإنسان بمحبة أبوية. أمَّا عبارة "واحِدٌ مِنهُما" فتشير إلى قلة قيمة العَصافير وبخس ثمنها حتى أنها لا تُباع إلاّ كمجموعة. أمَّا عبارة "بغَيرِ عِلمِ أَبيكم" في الأصل اليوناني ἄνευ τοῦ πατρὸς ὑμῶν (معناها من دون أبيكم) فتشير إلى السبب الثالث لنفي الخوف في إتمام الشهادة، لان حياة الشاهد تخص الله الذي يعتني به ويحفظه، ويعرفه حتى في أدق تفاصيل حياته، ولذلك لن يسمح الله أن تذهب حياة تلميذه هباءً، بل يهتم به ويحرسه، كما يؤكده الكتاب المقدس "قال: حَيٌّ الرَّبّ! أَنَّها لا تَسقُطُ شَعَرَة مِنِ آبنِكِ على الأَرض"(1صموئيل 14: 45). إن موت التلاميذ لن يكون عرضًا، لأنَّه مرتبط بمشيئة الله.  كما أنَّ طائراً صغيرا لا يموت بدون إرادة الله، التلاميذ لا يموتون بدون علم أبيهم السماوي، وكما أنَّ الله يهتم بالعصفور، كذلك يكون الله معنا في الحياة والممات.  أمَّا عبارة "أَبيكم" فتشير إلى تسمية الله أبًا للتلاميذ كمحبَّة الآب لأولاده. فإذا كان الله يعتني بما ليس لهم قيمة كالعَصافير فكم بالحري يعتني بالناس. وإذا كان يعتني بكل الناس فكم بالحري يعتني بمن هم بمنزلة أولاده.  إنَّنا أعزاء جداً على الله حتى أنَّه أرسل ابنه الوحيد ليموت عنّا (يوحنا 3: 16).  فحوى هذه الآية انه يجب أن نتق بمحبَّة الله وعنايته فلا نخشى التهديدات الشخصيَّة أو التَّجارب العسيرة، لكن يجب أن نخشى غضبه تعالى.

 

30 أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه.

 

تشير عبارة "فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه" إلى كلام جار مجرى المثل الذي يُراد به العلم الكامل والعناية الشاملة. وبهذا الكلام يحثُّ يسوع تلاميذه إلى الثقة بالله حيث " لا يَفقِدُ أَحَدٌ مِنكُم شَعرَةً مِن رأسِه " (أعمال الرسل 27: 34). حتى أنَّ شعرة واحدة من رؤوسنا لا تهلك إلاّ بالسماح منه، كما قال يسوع "لَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم" (لوقا 18:21). شعرة واحدة أي أصغر شيء فينا، وان فُقدت لا نشعر بها، ومع ذلك الله مهتمٌ بها.  ويُعلق البابا فرنسيس وفي خضمِّ العداء يجب على المسيحي ألا يفقد الرجاء أنه تعالى يرى كل آلام الإنسان حتى تلك الصغيرة والخَفيّة. فالله يرى ويحمي "(28 /6/ 2017‏). أمَّا عبارة "مَعدودٌ بِأَجمَعِه" فتشير إلى شَعر الرأس الذي هو قليلة القيمة حتى لا يهتم أحد بإحصائها، لكن عناية الله شاملة إلى هذا الحد حتى انه أحصاها، وهو يعتني بما لا نظنه يستحق العناية من أمورنا. ويعلق ق العلامة أوريجانوس على إحصاء شعرنا، قائلًا: "لا يقصد بذلك الشعر الذي نقصّه بالمقص ونُلقي به في سلّة المهملات، أو الشعر الذي يسقط ويموت مع تقدّم السن، لكن الشعر المعدود أمام الله هو الشعر مثل شعر شمشون حيث تسكن فيه قوّة الروح القدس، فيهبْ الغلبة على الفلسطينيّين، أي قوّة النفس وكثرة الأفكار النابعة عن الإدراك والفهم، والتي يُرمز لها برأس التلاميذ" (عظة 1 في سفر العدد).

 

31 لا تَخافوا، أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعاً.

 

تشير عبارة "أَنتُم أَثمَنُ مِنَ العَصافيرِ جَميعاً" إلى مقارنة بين الإنسان والعَصافير حيث يثبِّت بها السيد المسيح اهتمامه بنا، لذلك نحن لا نخاف من أي تهديدٍ أو أذلالٍ جسدي أو سخريةٍ أو اضطهادهذا لا يعني أنَّ الله يريد موت مؤمنيه، ولكن إن فرض عليهم أن يجابهوا الموت، يكون الله معهم فيجعل من موتهم شَهادةً واستشهاد ًا على مثاله هو. ومن هذا المنطلق، لن يكون موت التلاميذ صدفة، بل له معنى شبيه بموت المسيح.  هذه الآية هي خلاصة العدد السابق، فإذا اعتنى الله بالعَصافير فكم بالحري يعتني بتلاميذ المسيح الذين هم أولاده.  لا يعتمد تلميذ المسيح في شهادته لإنجيل الرَّب على قواه الشخصية، بل على علاقة بالمسيح، وهو الضمان الّذي لا يخيّب صاحبه أبدًا.  إن معرفته برعاية الله تخوّله أن يتخطّى الخوف.

 

32 ((مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات.

 

تشير عبارة "مَن" في الأصل اليوناني Πᾶς οὖν ὅστις (معناها فكل مَن) إلى كل أحد بلا استثناء. أمَّا عبارة "شَهِدَ" في الأصل اليوناني ὁμολογέω (معناها اعترف) فتشير إلى الاعتراف علنًا بيسوع أنَّه سيده ومعلمه بالقول والفعل، والتَّخلي عن كل ما لا يليق بهذا الإقرار.  وقد يؤدي الاعتراف به إلى سفك الدم والموت (لوقا 12: 8-9)، وبالتالي ربط مصير التلميذ بمصير المسيح. أمَّا عبارة "أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات" فتشير إلى السبب الرابع لعدم خوفهم، والتحديد أنَّ معاملة الله لهم في المستقبل مرتبطة بأمانتهم له في الحاضر، إذ يضع يسوع ذاته وسيطَا بيننا وبين الآب ويشهد أمام أبيه للذين شهدوا له وتضامنوا معه على الأرض. ويؤكد يوحنا الرسول هذا التصريح بقوله "سأَشهَدُ لاسمِه أَمامَ أَبي وأَمامَ مَلائِكَتِه" (رؤية 3: 5). وشهادة يسوع تتم يوم الدينونة، وهذا الأمر يُذكّرنا في قول الله في العهد القديم "لأَنَّ الَّذينَ يكرِموننَي أُكرِمُهم والَّذينَ يَستَهينونَ بي يُهانون" (1صموئيل 2: 30)، ويُعلق القدِّيس غريغوريوس بالاماس، راهب وأسقف ولاهوتي "كخادم للربّ، يشهد كلُّ قدّيس من القدّيسين، أمام البشر الفانين، بأنّه ينتمي للمسيح في هذه الحياة العابرة، ويفعل ذلك في فترة زمنيَّة قصيرة وبوجود عددٍ قليل من الناس. بينما ربّنا يسوع المسيح يشهد لنا في عالم الحياة الأبديّة، أمام الله آبيه" (عظة لعيد جميع القدّيسين). أمَّا عبارة " أَمامَ أبي " فنشير إلى السماء أو في اليوم الأخير.

 

33 ومن أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات.

 

تشير الآية "ومن أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" إلى تكرار الآية السابقة لكن بصورة إنكار زيادة للإيضاح. أمَّا عبارة "أَنْكَرَني" فتشير إلى جَهِلَ المسيح واِدَّعَائه عَدَمَ مَعْرِفَتِهِ، كما فعل بطرس في بيت عظيم الكهنة "إِنَّي لا أَعرِفُ هذا الرَّجُل"(متى 26: 72). قد يكون الإنكار بالقول أو بالفعل، وقد يكون بالسكوت حين وجوب التكلم. أمَّا عبارة "أُنْكِرُه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" فتشير إلى جهل يسوع في الدينونة الأخيرة هؤلاء الذين جهلوه وادَّعوا عدم معرفته على الأرض حيث يقول يسوع لهم "ما عرَفْتُكُم قَطّ" (متى 7: 23). لا يعدّ يسوع من أنكره عضوا من أعضاء جسده، ولا يشمله برحمته، بل يُحرمه من المجد السَّماوي. وهناك تصريح مماثل في إنجيل مرقس " لأَنَّ مَن يَسْتَحْيِي بي وبِكَلامي في هذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئ يَسْتَحْيِي بِه ابنُ الإِنسان، متى جاءَ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه المَلائِكَةُ الأَطهار" (مرقس 8: 38)، ولم يتردَّد بولس الرسول أن يُردِّد نفس الكلمات إلى تلميذه طيموتاوس الجندي الصالح "إِذا أَنكَرْناه أَنكَرَنا هو أَيضًا وإِذا كُنَّا غَيرَ أُمَناء ظَلَّ هو أَمينًا لأَنَّه لا يُمكِنُ أَن يُنكِرَ نَفْسَه" (2 طيموتاوس 2: 12 -13). فمن أنكر المسيح لا يستطيع أن يرفع دعواه إلى الآب، لانَّ من رفض الرحمة لا يعفو عنه العدل. ومع ذلك فقد غفر يسوع لبطرس عندما تاب (يوحنا 21:15-19)، وسيغفر للأشخاص الذين ينكرونه في الاضطهاد بسبب ضعفهم. إنَّ الكنيسة تقبل رحمة من يجحد إيمانه، لأنها تعرف ضعفه. فالخلاص لمن هو ثابت في المسيح. فنتسأل ما هي دينونتنا في تلك اللحظة التي سنقدم فيها أنفسنا أمام الآب؟

 

 

 ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 10: 26-33)

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 10: 26-33)، نستنتج انه يتمحور حول رسالة التلاميذ بالتبشير بملكوت الله.  ومن هنا نتساءل: ما هي مقومات رسالة التبشير بالمسيح؟

 

رسالة الملكوت ضرورة لخلاص النفوس، وهي مبادرة من الله الآب، لكنها تنبع من قلب يسوع الذي " رأَى الجُموعَ فأَخذَته الشَّفَقَةُ علَيهم، لأَنَّهم كانوا تَعِبينَ رازِحين، كَغَنَمٍ لا راعيَ لها" (متى 9: 36). وقد أعلن يسوع بأقواله وأعماله ملكوت الله، والآن يُرسل تلاميذه يُبشِّرون بهذا الملكوت. وقد يتعرض حامل هذه الرسالة إلى الرفض والتهديدات والاضطهادات. لذلك وجّه يسوع إرشادات إلى تلاميذه ليكونوا على استعداد للرفض والاضطهادات التي يتعرض لها الكثيرون منهم بصفتهم حاملين رسالة الإنجيل، كما جاء في نبوءة يسوع "يُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي" (متى 10: 22).

 

يأتي الاضطهاد من الخارج من السلطات والحكومات والمحاكم كما تنبأ السيد المسيح "تُساقونَ إلى الحُكَّامِ والمُلوكِ مِن أَجلي، لِتَشهَدوا لَدَيهِم ولَدى الوَثَنِيِّين" (متى 10: 18)، وقد تأتي المقاومة من المتديِّنين تدين زائف مثل الفريسيين المرائيين "إحذَروا النَّاس، فسَيُسلِمونَكم إلى المَجالس، وَيجلِدونَكم في مَجامِعِهم"(متى 10: 17)، وقد يأتي الاضطهاد من الداخل كالأصدقاء والعائلات “سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إلى الموت، والأَبُ ابنَه، ويَثورُ الأَبناءُ على والِدِيهم ويُميتونَهم" (متى 10: 21). فالعيش لله كثيرا ما يجلب الاضطهاد، ولكن ذلك يتيح الفرصة للمناداة ببشارة الخلاص والاستشهاد.

 

بناء على ذلك، أعطى يسوع المسيح لتلاميذه توصيات خاصة بشأن الرفض والاضطهادات التي يتعرضون لها أثناء تبشيرهم بالملكوت.  فأوصاهم" يسوع في الأصل اليونانيّةπαραγγείλας   كما يوصي القائد الأعلى جيشه في معركة دائمة ضدّ إبليس وكل أعماله. فعلى تلاميذه أن يتهيؤوا للجهاد الروحي المستمر والقتال ليس ضدّ بشر، وإنما ضدّ الشيطان والقوات الروحيّة الشرّيرة " تَسلَّحوا بِسِلاحِ الله لِتَستَطيعوا مُقاوَمةَ مَكايدِ إِبليس، فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ وولاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، "والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات"(أفسس 6: 11-12). وأوصاهم يسوع، كما يوصي الصديق أصدقاءه للمساندة، وأوصاهم كما يوصي المعلم تلاميذه ليحملوا فكره، أوصاهم كما يوصي الإمبراطور أو الملك الذي يرسل سفراءه، يحملون سمات شهادة حق له، ويعلنون دستوره الروحي في حياتهم كما في كرازتهم. ومن أهم هذه التوصيات، هي:

 

1) الجهاد في سبيل إعلان ملكوت الله (متى 10: 26-27)

 

تلميذ المسيح له رسالة، ورسالته هي نقل إنجيل الملكوت إلى الناس أجمعين. والإنجيل يُعد الشهادة للربّ يسوع المسيح أمام العالم مما يستوجب إقراراً واعترافاً علنيّاً، واضحاً.  لذلك يطلب يسوع من تلاميذه جهاداً في سبيل الملكوت. يطلب منهم أن يقولوا الحق، دون مُوَارَبَةٍ أو رياء، وان يبذل كل واحد نفسه كما "بَذَلَ يسوع نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا" (1 يوحنا 3: 16).

 

وبناء على ذلك، يتوجب على التلميذ أن يسلك بروح معلمه "الحمل الحقيقي".  ويُحسب التلميذ حملًا باتّحاده بالمسيح، فيلتزم المسيح برعايته والعمل من خلاله معلنًا قوّته في الضعف، كما قال للرسول بولس: " َ حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف "، ويتابع بولس الرسول قوله: " فإِنِّي بِالأَحرى أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسي. ولِذلِك فإِنِّي راضٍ بِحالاتِ الضُّعفِ والإِهاناتِ والشَّدائِدِ والاِضطِهاداتِ والمَضايِقِ في سَبيلِ المسيح، لأَنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا" (2 قورنتس 9-10 لا يضمن يسوع لنا حياة خالية من المشاكل، لكنه يقف على جانب طريقنا، ليساعدنا على مساعدة نفوسنا في المَضيء قُدُمًا في حمال بشارة الملكوت.

 

نستنتج مما سبق انه لا يكون للتلميذ وجود ومصير إلا بوجود سيّده ومصيره، " فَحَسْبُ التِّلميذِ أَن يَصيرَ كَمعلِّمِه والخادِمِ كَسيِّدِه، فإِذا لَقَّبوا ربَّ البَيتِ بِبَعلَ زَبول، فَما أَحْراهم بِأَن يَقولوا ذلك في أَهْلِ بَيتِه؟ " (متى 10: 24-25). ولذلك وعد يسوع تلاميذه بقوة روحية تساعدهم على الثبات، إن هم ظلوا أمناء حتى لو تهدّدت حياتهم البشرية.

 

2) تَحمُّل الاضْطِهاد والمَوت (متى 10: 28)

 

جاء المسيح لخلاص العالم، كما ورد في إنجيل يوحنا "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم (يوحنا 3: 17) ومع ذلك قد ابغضه العالم بل بلغ الاضطهاد ذروة في آلامه (متى 23: 31-32)، وسوف يكون الاضطهاد نصيب تلاميذه أيضًا كما تنبأ المسيح " إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً"(يوحنا 15: 20). الاضطهاد هو جزء لا يتجزّأ من رسالة التلاميذ. والمسيح يضع نفسه كمثال، فإن كان قد تألَّم، وهو ربُّ المجد، أفلا نقبل الألم، بل قيل عنه أنه قد اكتمل بالألم، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين " فذاكَ الَّذي مِن أَجْلِه كُلُّ شَيءٍ وبِه كُلُّ شَيء، وقَد أَرادَ أَن يَقودَ إلى المَجْد ِكَثيرًا مِنَ الأَبناء، كانَ يَحسُنُ به أَن يَجعَلَ مُبدِئَ خَلاصِهم مُكَمَّلاً بِالآلام"(عبرانيين 10:2). أفلا نقبل الألم لنكون كاملين. فما يسمح به الله هو لأجل اكتمالنا نتكمل. يسوع يكتمل بالألم ليشابهنا في كل شيء، ونحن نتكمل بالألم لنَكتمُل ونُشبهه. السيّد المسيح هو غالب الألم، فإنه لا ينزع الألم عن تلاميذه، إنّما يعطيهم أن يغلبوا به. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إرادة الله لا أن يخلّصك من المخاوف بل يَحثّك على ازدرائها، فإن هذا أعظم من التخلُّص منها" (الحب الأخوي، 1964، 305(.فإن كنا نخاف الله، فلن نخاف من الناس.

 

كما أرسل الله أبيه للعالم، كذلك أرسل سيدنا يسوع المسيح تلاميذه، وأخبرهم مقدمًا بالآلام التي ستواجههم من قِبلِ العالم الشرير حتى إذا ما رأوا تحقيق ذلك لا يفزعوا ولا يفاجئوا، بل يطمئنوا ويزداد إيمانهم، حيث أنَّ من يعرف المستقبل هو الذي يستطيع أن يحميهم "لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون" (يوحنا 14: 29). ويعلق القدّيس رافاييل أرناييز بارون، راهب ترابيست " إنّ الله قد سمح بأنّ أحمِل الصّليب فليكن مباركًا لأنّه وكما قال أيّوب: "أَنَقبَلُ الخَيرَ مِنَ اللهِ ولا نَقبَلُ مِنه الشَّرّ؟" (أيوب 2: 10). إنّ كلّ شيء يأتي منه: الصّحة كما المرض والخيرات الزمنيّة كما المِحَن؛ كلّ شيء دون استثناء هو مُرَتّبٌ بطريقة مٌثلى " (كتابات روحيّة بتاريخ 11 /08 / 1934). ومن هذا المنطلق، إن موت التلاميذ لن يكون عرضا، لأنه مرتبط بمشيئة الله.  كما أنَّ طائرًا صغيرًا لا يموت بدون إرادة الله، كذلك التلاميذ لا يموتون بدون علم أبيهم السماوي، وكما إنَّ الله يهتم بالعصفور، كذلك يكون معنا في الحياة والممات. فمعرفة التلميذ المُرسَل أنَّه في علاقة مع الله يُبدِّد كل خوف، ويُمكِّنه أن يواجه الخطر والاضطهاد.

 

المشكلة في الاضطهاد أنَّه يصيب التلاميذ، لأنّهم أبرار؛ فيحاول العالم الشرير من خلال الاضطهاد أن يعرقل مخطط الله في خلاص النفوس ويُفصل التلاميذ عن الله، حيث يقاومهم العالم ويعارضهم بشدة ويُوجِّه إليهم الاتهامات. إذ كثيرا ما يُطلق على الخير شرًا، فإذا كان يسوع الكامل قد دعي شيطانًا، فلا بُدَّ أن يتوقع اتباعه أن توجَّه إليهم مثل هذه الاتهامات (متى10: 10: 25)، وربما يقتلونه بغير رحمة، لانَّ الرسالة قد تثير صراع بينهم وبين أنفسهم.  أمَّا التلميذ البار الذي احتمل الاضطهاد فهو قادر على غلبة العالم كما صرّح يسوع المسيح "تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم"(يوحنا 16: 33).

 

يدل الاضطهاد على أنَّ تعليمات الإنجيل التي يعلنها التلاميذ تختلف عن حياة العالم، والعالم لا يعترف ولا يقبل ما هو ليس جزءًا منه، إنهم لا ينتمون إلى العالم الجائر المُضطهد، كما صرّح يسوع "لو كُنتُم مِنَ العالَم لأَحَبَّ العالَمُ ما كانَ لَه. ولكِن، لأَنَّكم لَستُم مِنَ العالَم إِذ إِنِّي اختَرتُكم مِن بَينِ العالَم فلِذلِكَ يُبغِضُكُمُ العالَم"(يوحنا 15: 19)، ولكنهم يُحصون بين أولئك الذين فيهم يتمجّد الرَّب يسوع، يوم ينتصر على كل اضطهاد، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَن يُجازِيَكم أَنتُمُ المُضايَقينَ وإِيَّانا بِالرَّاحَة عِندَ ظُهورِ الرَّبِّ يَسوع، يَومَ يَأتي مِنَ السَّماءِ تُواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه"(2 تسالونيقي 1: 7).  

 

إنَّ تعرض التلاميذ للاحتقار والنبذ والاستهزاء والاضطهاد هو فرصة للتشبه بمعلمهم يسوع المسيح من ناحية وفرصة لتقديم الشهادة والاستشهاد من ناحية أخرى. إذا قتل الناس تلميذ المسيح، فإنَّهم لا يقتلون إلاَّ جسده، "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس" (متى 10: 28). لا يصيب الاضطهاد والموت إلاّ الجَسد (متى 10: 28)، ولا يستطيعون أن يقتلوا حب المسيح. لقد قال القديس يوستينس النابلسي الشهيد لقاتليه " أنتم تستطيعون قتلي. لكنكم لا تستطيعون إيذائي". لان الأذى عنده بقتل النَّفس.  إن أشر ما يستطيع أعداؤنا أن يفعلوا هو أن يبيدوا حياتنا الجَسدية، ولكن هذا لا يمنع قيامة مباركة لحياة أبدية.  ولا يزال الرَّب القائم من الأموات يوجّه دومًا هذه الرسالة إلى تلاميذه  لا تَخَفْ ما ستُعاني مِنَ الآلام. ها إِنَّ إِبْليسَ يُلْقي مِنكُم في السِّجنِ لِيَمتَحِنَكم، فتَلقَونَ الشِّدَّةَ عَشرَةَ أَيَّام. كُنْ أَمينًا حَتَّى المَوت، فسأعْطيكَ إِكْليلَ الحَياة" (رؤيا 2: 10).

 

وما أجمل أن نشعر أننا في يد الله الرحيم، وأنه لا سلطان لأحد علينا ما لم يكن الله قد أعطاه هذا السلطان (يوحنا 19: 11). فحياة التلاميذ ليست في يد مُضَّطهديهم، بل في يد الله الذي له سلطان ليس فقط على أجسادهم بل على نفوسهم. فمن يُنكر المسيح، لأنَّه خائف من العذاب سينقذ جسده لأيام، ولكن سيكون قد خسر نفسه أبديًا. الله اقوى من الموت الثاني الذي هو الهلاك الأبدي.

 

3) عدم الخوف (متى 20: 29)

 

يحتاج التلاميذ في مواجهتهم لمسؤوليات التبشير برسالة الإنجيل إلى الثقة كيلا يشلّهم القلق من ناحية، ولكي يثبتوا رغم الصعاب والاضطهادات، ولا يفقدون الأمل في تبليغ رسالتهم من ناحية أخرى.  لذلك يوصي يسوع تلاميذه "لا تخافوا!" وهي عبارة اطمئنان، وفي الوقت عينه دعوة لتغيير المرء حياته، إذ تبعث هذه الوصية الثقة في الإنسان، حيث إنَّ الثقة بالله تزيل من القلب كل خوف" كما يصرّح صاحب المزامير إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظُّلُمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي" (مزمور 23: 4). ويُعلق الطوباوي يوحنّا بولس الثاني "لا تخافوا من متطلّبات حبّ المسيح. بل خافوا بالعكس من الجُبن وخِفّة العقل والسعي وراء المصالح الخاصّة والأنانيّة وكلّ ما يُسكت صوت المسيح" (كلمة أمام شباب تشيلي في 02/04/1987). ويذكر يسوع عدة أسباب لعدم خوف تلاميذه في التبشير:

 

السبب الأول يقول يسوع "لا تَخافوهُم إِذاً! فَما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم" (متى 10: 26)، فالتلميذ هو الشاهد للكلمة وخادم يزرع الكلمة في كل مكان، ولا يستطيع إلاّ أن يشهد على قوتها وحيويتها. فالكلمة لها قوة وحيوية في حد ذاتها، كي تنمو وتنضج تماماً مثل البذرة.  وكلمة الرَّب تكشف مؤامرات العالم وتفضح شر الشيطان، كما جاء في تعليم بولس الرسول "خَلَعَ أَصحابَ الرِّئاسةِ والسُّلْطان وشَهَّرَهم فسارَ بِهِم في رَكْبِه ظافِراً " (قولسي 2: 15). وعلى التلميذ ألاَّ يخاف من الناس (متى 10: 26) لان غلبة الأشرار إلى حين ونميمتهم أو شكايتهم الكاذبة لا بدَّ أن تظهر يوما. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن الزمان سيُعلِن المكتوم ويكشف افتراء أعدائكم عليكم، فتظهر فضيلتكم إنكم منقذون ومُحسنون، إن أثبتُّم ذلك بالأعمال؛ فالناس لا يصغون إلى الأقوال بل ينظرون إلى حقيقة الأعمال!" (مقالات إكليل في القدّيسين يوحنا الذهبي الفم، 110). ويؤكد المسيح أهمية ثبات التلميذ كما تنبا "يُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إلى النِّهاية فذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 10: 22). فالثبات هو دليل أنك كرّست نفسك وحياتك ليسوع وإنجيله. ويعلق البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون" الإيمان كان دائما سبب الاضطهاد، لكن من يؤمن لا يخاف".

 

السبب الثاني يقول الرَّب "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم. (متى 10: 28). يسند السيّد المسيح تلاميذه ليقبلوا الضيق بلا خوف، معلنًا لهم أن حياتهم الداخليّة لن تؤذي بل ولا أجسادهم بدون إذن أبيهم السماوي. التلميذ المؤمن يجب ألاَّ يخاف من يقتلون الجَسد (متى 10: 28) ولا أن يتراجع حتى أمام الموت، لانَّ موت التلميذ مرتبط بمشيئة الله.  الله وحده يمتلك السلطان أن يلقي الجَسد والنفس في جهنم (لوقا 12: 5). إذ يُعلّمنا الوحي أن نخاف ممَّن يُخيف وهو الله، وألا نخاف ممَّن لا يخيف وهو الشيطان. إن بمخافتتنا لله لا نهاب إنسانًا أو شيطانًا.  التلميذ المؤمن يجب ألاَّ يخاف من الشيطان حيث لا توجد آية يُقال فيها أن نخاف من الشيطان، وإنما القول بان نقاومه بشدَّة كما جاء في توصيات يعقوب الرسول "قاوِموا إِبليسَ يُوَلِّ عنكُم هارِبًا "(يعقوب 4: 7) وكذلك جاء أيضا في تنبيهات بطرس الرسول " قاوِموه راسِخينَ في الإِيمان، عالِمينَ أَنَّ إِخوَتَكمُ المُنتَشرينَ في العالَم يُعانونَ الآلامَ نَفْسَها" (1 بطرس 5: 9). فالتلميذ لا يخاف إلاَّ من الله وحده، ولكن خوفه مخافة الأبناء، لا خوف العبيد (لوقا 23: 40).  فمخافة الله تساهم في توجيه سير الإنسان نحو إيمان أعمق، إيمان يتخلى عن الضمانات الشخصيّة ويعتمد على حبّ الله الذي يعتني به. فتلميذ المسيح لا يخاف من أعدائه الأشرار، إذ أن قوة ضررِهم على الجَسد فقط، ولا تبلغ النَّفس. ليس هناك سيّد يتحكم بحياة التلميذ، وليس لأحد السلطة المطلقة على حياته. يمكن العدو أن يقتله جسديا (متى 10: 28) لكن لا يستطيع أحد قتل نفسه، أو انتزاع روحه. التلميذ المؤمن يجب ألاّ يخاف من الموت لان مصيره هو في يد من غلب الخوف من الموت لأنّه يؤمن بربّ الحياة الذي أقامه من قبر الشكّ واليأس والتردّد. أن حياتنا كريمة وعظيمة في عينيّ الرَّب، هو معنا لذا ينزع عنّا كلّ خوف التي يتأتى من الموت.  ولن نتغلّب على الموت إلا إذا متنا عن أنفسنا لنحيا في مَن مات وقام من أجلنا (2قورنتس5: 5)؛ فالشرير يستطيع أن يقتل مسكن الروح أي الجَسد، لكن هل يمكنك أن يقتل الساكن فيه؟ ويعلق القدّيس أوغسطينوس" لا تخف ولا يضعف قلبك ولا تنزعج عندما يُسحب منك المال أو الطعام أو الشرّاب أو الملذّات أو الملابس أو السكن أو جسدك ذاته، بل خف العدوّ الذي يسحب نفسك من الإيمان والاتّكال على الله ومحبّة الله والقريب، عندما يبذر في قلبك الكراهيّة والعداوة والارتباط بالزمنيّات والكبرياء وغير ذلك من الخطايا". فالإيمان يعني دائمًا التخلّي عن الضمانات الشخصيّة والاعتماد على حبّ الله الذي يعتني به، والذي يحصي شعر رؤوسنا كلّه حتّى أنّ شعرة واحدة لا تسقط بدون علمه.

 

السبب الثالث: يقول الرَّب "أمَّا يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم. أَمَّا أَنتُم، فشَعَرُ رُؤُوسِكم نَفسُه مَعدودٌ بِأَجمَعِه" (متى 10: 29-30). يدل قول الرَّب على أنَّ حياة الشاهد تخصُّ الله الذي يعتني به ويحفظه، ويعرفه حتى في أدق تفاصيل حياته. لان حياة التلميذ الداخليّة لن تؤذى بل ولا تؤذي جسده دون إذن أبيه السَّماوي. ومن هذا المنطلق، يعرف التلاميذ أن الله معهم في كل الظروف لكي يحميهم وينقذهم (ارميا 1: 8)، ويعلمون على مَن اتكلوا، كما جاء على لسان بولس الرسول "مِن أَجْلِ ذلِكَ أُعاني هذِه المِحَن، غَيرَ أَنِّي لا أَستَحيِي بِها، لأَنِّي عالِمٌ على مَنِ اتَّكَلْتُ وموقِنٌ أَنَّه قادِرٌ على أَن يَحفَظَ وَديعَتي إلى ذلِكَ اليَوم" (2 طيموتاوس 1: 12)، ويُعلق القديس أوغسطينوس لمن يريد اضطهاده: "إنّني لن أخاف من وعيدك حتى بالنسبة لجسدي، فإنه وإن كان لك سلطان عليه لكن حتى شعر رأسي مُحصى لدى خالقي". يقوم عدم الخوف أساسًا على اكتشاف الإنسان لرعاية الله به كأبٍ مُحبٍّ؛ فيهتمّ به كما يهتمّ بالخلقية من أجله. هذه الرعاية تمتد في حياتنا من إحصائه لشعر رؤوسنا جميعها إلى اهتمامه بالمجد الذي يُعدّه لنا في السَّماوات. وهكذا تُبعد العناية الرَّبانية خوف تلاميذ المسيح في إتمام الشهادة لإنجيل الرَّب.

 

السبب الرابع لعدم خوف تلاميذه في الشهادة لكلمته قوله تعالى "مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات" (متى 10: 32). إن الله يعامل تلاميذه في المستقبل بقدر أمانتهم له في الحاضر، إذ يُنصّب يسوع ذاته وسيطًا بيننا وبين الآب ويشهد أمام آبيه للذين شهدوا له وتضامنوا معه على الأرض.  لذلك يوصي يسوع تلاميذه بالاّ يخافوا وألا يفقدوا رباطة الجأش أمام جميع الصعاب التي قد يواجهونها خلال عملهم بالبشارة بالإنجيل. "لا تَخَفْ أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، فقد حَسُنَ لدى أَبيكم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالمَلَكوت" (لوقا 12: 32). لانَّ الخوف يؤدي إلى الاختباء (تكوين 3: 8-10)، والانغلاق (متى 25: 14-30)، وبالتالي إلى الإخفاق في الحياة وعدم إعلان والشهادة للإنجيل. من هذا المنطلق، يُردِّد يسوع على مسامع تلاميذه الذين ينتظرهم الاضطهاد ألاَّ يخافوا أولئك الذين خاصة يقتلون الجَسد (متى 10: 26-31)، ففي وسط الاضطهاد يستطيع المسيح أن يطمئنهم، لانَّ الرَّب يسوع قد غلب العالم "قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنا 16: 33).

 

نستنتج مما سبق، أنَّ الله أوصى "لا تخف" لكل نبي ورسول وتلميذ له: إبراهيم (التكوين 15: 1)، وموسى (عدد 21: 34) ويشوع بين نون (يشوع 8: 1) وداود (1 صموئيل 23: 17) وإيليا النبي (2 لموك 1: 15) وزكريا والد يوحنا المعمدان (لوقا 1: 13) وسمعان بطرس (لوقا 5: 10)، والسيدة مريم العذراء، وبولس الرسول (أعمال الرسل 27: 24) وتلاميذه يقول المسيح "لا تخافوا". واليوم يقول لنا ما قاله لكل تلميذ قبلنا: "لا تخف". المسيح يُزيل من قلبنا كل أسباب الخوف ودواعي القلق والاضطراب. فلنردّد إذًا بإيمان، ورجاء وبقلب ينبض بالمحبّة: "إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟" (رومة 8: 31). ويعلق البابا فرنسيس “الخوف المبالَغ هو مناقض للمسيحية، فهو يضعفنا ويشلنا، ومَن يصبح عبدا للخوف لا يتحرك ولا يعرف ماذا عليه أن يفعل" (الخوف كعطية: كتاب حوار طبيب النفس سالفو نوي مع البابا فرنسيس).

 

4) الثقة بعناية الرَّب وحمايته (متى 10: 30-31)

 

يقوم عدم الخوف أساسًا على اكتشاف الإنسان لرعاية الله به كأبٍ مُحبٍ؛ ويهتمّ به، كما يهتمّ بالخلقية من أجله. هو معنا لذا ينزع عنّا كلّ خوف، ويحبّنا حبًّا لا يُمكننا فهمه أو إدراكه. وتمتد هذه الرعاية في حياتنا من إحصائه لشعر رؤوسنا جميعها إلى اهتمامه بالمجد الذي يَعدّه لنا في السَّماوات. ويُعلق القدّيس إغناطيوس دي لويولا مؤسِّس الرهبانيّة اليسوعيّة "لا يرضى الله بالقلق وباضطراب النفس، إذ يرغب الرَّب في أن يتّخذ ضعفنا وقدرتنا المحدودة عضدًا من قوّته وقدرته اللامتناهية، ورغبته هي في أن نرجو استبدال شوائب إمكانياتنا بعطفِه وبرِّه" (رسالة بتاريخ 17/11/1555).

 

يهتم الله تعالى بعصافير لا قيمة لها، كما جاء في الناجيل البشير "أمَّا يُباعُ عُصفورانِ بِفَلْس؟ ومعَ ذلِك لا يَسقُطُ واحِدٌ مِنهُما إلى الأَرضِ بِغَيرِ عِلمِ أَبيكم" (متى 10: 29)، فكيف لا يهتم بتلاميذه المُبشرين باسمه! إننا أعزاء على الله حتى أنه أرسل ابنه الوحيد للمَوت عنَّا " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة"(يوحنا 3: 16). فلا حاجة بنا أن نخشى التهديدات الشَّخصيَّة أو التجارب العسيرة أو الاضطهادات، فكل هذه لا يُمكن أن تنزع محبة الله أو روحه منا، كما صرّح بولس الرسول "فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟" (رومة 8: 35)

 

ومن ناحية أخرى، بقى لزاما علينا أن لا نظنَّ أنَّ الله سيُزيل كلَّ المتاعب كوننا تلاميذ الرَّب؛ بل مطلوب من تلاميذه التبشير بالوداعة تجاه العنف، والحكمة والفطنة تجاه الشراسة كما أوصانا يسوع :"هاءَنذا أُرسِلُكم كالخِرافِ بَينَ الذِّئاب فكونوا كالحَيَّاتِ حاذِقين وكالحَمامِ ساذِجين" (متى 10: 16) ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما دُمْنا نحن غنم، فإنّنا سنغلب بالرغم من وجود الذئاب التي تجول حولنا لافتراسنا، أمّا إذا صرنا ذئابًا فسنُهزم، إذ يفارقنا عون راعينا، الذي لا يعول الذئاب بل الغنم، بهذا يتركنا وينسحب حيث لا تسمح لقدرته أن تظهر فينا".

 

5) نيل المكافأة (متى 10: 32-33)

 

إذا سمح السيد المسيح بالألآم والاضطهادات والموت فأنه يطلب منا ألاَّ نقلق.  فهو يتقبّل الآلام فينا، لكن يهبنا النصرة والإكليل. إذ وعد يسوع تلاميذه الذين يقاسمونه الصعوبات من أجل الملكوت، بقوَّة روحيّة تتيح لهم أن يظلوا ثابتين في الإيمان والشهادة حتى لو تعرَّضت حياتهم للتهديدات والسُخرية والخطر والموت. ووعدهم أخيرًا بنيل المكافأة. ويعلق القدّيس إيرناوس اللِّيونيّ "في الواقع، إنّ الرَّب نفسه هو الذي أنقذ البشر، لأنّهم لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم. قال النبيّ أشعيا: "قَوُّوا الأيديَ المُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة. قولوا لِفَزِعي القُلوب: تَقَوَّوا ولا تَخافوا هُوَذا إلهُكم. النَّقمَةُ آتِيَة. هذه مُكافَأَةُ الله. هو يَأتي فيُخَلِّصُكم" (أشعيا 35: 3-4). فنحن نستطيع المحافظة على خلاصنا بمساعدة الله فقط "(ضدّ الهرطقات، الجزء الثالث)

 

الذين يثبتون في المسيح رغم كل المتاعب، لهم قيمة أبدية ويفوزون بمكافآت عظمية كما وعدهم بها السيد المسيح "طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم" (متى 5: 11-12). وفي هذا الصدد كتاب الاقتداء بالمسيح " إنّ كلّ مَن يحكم على الأمور من خلال ما يستحقّه من حكم ٍ وليس من خلال كلمات الناس وظنونهم، لهو حقًّا حكيم ومتعلّم من الله " (الجزء الثّاني، الفصل الأوّل).

 

         

الخلاصة

 

يُقدِّم لنا متى الإنجيلي في هذا الأحد جزء من عظة كاملة ليسوع مُخصصة لإرسالية الرسل (متى 10: 1-42). وفي هذا النص الإنجيلي (متى 10: 26-33) يتابع يسوع توجيهاته الضروريّة لتلاميذه لكي ينجحوا في مسيرة نشر الإنجيل المقدس ويقول لنا" الَّذي أَقولُه لَكم في الظُّلُمات، قولوه في وَضَحِ النَّهار. والَّذي تَسمَعونَه يُهمَسُ في آذانِكم، نادوا بِه على السُّطوح"؛ هذه هي البشارة! والبشارة تتطلب منا شجاعة حقيقية في عيش هذا الجهاد الداخليّ، وتضعنا أمام صعوبات تُسبِّبها لنا "شوكة الشيطان"، وهذا ما يسمى استشهادًا، والاستشهاد هو جهاد يومي للشهادة خلال ألفي عام، حيث بذل عدد هائل من الرِّجال والنِّساء حياتهم ليبقوا أمناء ليسوع المسيح وإنجيله. وإنجيل الرَّب ليس كنزًا نحتفظ به لأنفسنا لتتمتَّع به وحدنا، بل إنَّه نورٌ يجب أن يُنشَر ليُبدِّد الظلام ويعطي السلام ويمنح الخلاص إلى العالَم.

 

يطلب المسيح منا أن نقبله ونبشرّ به، كما ترنم صاحب المزامير "سأُبَشِّرُ أُخوَتي باْسمِكَ وفي وَسْطِ الجَماعةِ أُسَبِّحُكَ" (مزمور 22: 23) وكان بولس الرسول خير مُبشر باسم المسيح كما جاء على لسانه "إِذا بَشَّرتُ، فلَيسَ في ذلك لي مَفخَرَة، لأَنَّها فَريضةٌ لا بُدَّ لي مِنها، والوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!" (1 قورنتس 9:16). وكل تلميذ شهد أمام البشر، بأنّه ينتمي للمسيح في هذه الحياة العابرة، وثبت في إيمانه حتّى النهاية، يشهد له السيد المسيح في عالم الحياة الأبديّة، أمام الله أبيه فيما تحيط به الملائكة ورؤساء الملائكة، وبحضور جميع البشر حيث يكلِّلُ بالمجد.

 

يدعو يسوع تلاميذه إلى التبشير بثقة وبدون خوف بقوله لهم: "لا تخافوا!”؛ في الواقع، لا يجب أن نخاف من شيء لأنه" ما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم". إن كنّا مع الآب، فنحن إذا على طريق المحبة كما قال بولس الرسول "فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟  فقَد وَرَدَ في الكِتاب: إِنَّنا مِن أَجْلِلكَ نُعاني المَوتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبْح. ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا. وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا (رومة 8: 35-39)

 

دعاء

 

أيّها الرَّب يسوع، إنّه من دواعي الفرح أن نكون من تلاميذك، امنحنا القوّة أن نبشِّر الجميع بكلمتك بكل جرأة ودون خوف، وان نشهد لفرح الإنجيل أمام الآخرين، فأعطنا الشَّجاعة أن نحتمل أيّ صعوبةٍ وأيّ ألمٍ قد يعترض طريقنا في زرع الإيمان في قلوب الآخرين، فنُسبِّح اسمك بين إخوتنا. آمين.