في لقاء لي مع أحد المعالجين النفسيين، سألته عن أكثر المشكلات التي يأتي بها المرضى إليه. وكان جوابه أنه لاحظ خلال سنوات عمله الطويلة أن قلة الانتباه والإدراك هما أساس تلك المشكلات، وذلك باختلاف أعمار مرضاه وأحوالهم وظروفهم المختلفة.
حفَّزتني إجابته للبحث أكثر عن معنى الانتباه والإدراك في علم النفس، وعن أهميته وتأثيره في حيوات الناس.
رافقونا -أعزائي القراء- عبر سطور هذا المقال، والذي نخبركم فيه كل ما تحتاجون معرفته عن مفهوم الانتباه والإدراك في علم النفس المعرفي.
ما هو الانتباه؟
يشير مفهوم الانتباه في علم النفس المعرفي إلى كيفية معالجة الإنسان لمعلومات محددة في بيئته.
تخيل معي -وأنت تقرأ سطور هذا المقال الآن أن هناك العديد من المشاهد والأصوات والأحاسيس تحدث داخلك وحولك في نفس اللحظة.
على سبيل المثال، ضغط قدميك على الأرض، أو الأصوات التي تأتي من النافذة، أو إحساسك بدفء ملابسك التي تلامس جسدك، وغير ذلك الكثير.
على الرغم من تنافس كل تلك المعطيات الموجودة حولك في بيئتك على الاستحواذ على انتباهك، إلا أنك استطعت تجاهلها من أجل التركيز على معطى واحد فقط، وهو قراءة المقال.
إذن، فوفقًا لعالِم النفس الشهير (ويليام جيمس)، فإن الانتباه هو “استحواذ العقل على واحد فقط من عدة أشياء أو مسارات فكرية تحدث في نفس الوقت؛ أي سحب الإدراك من أشياء معينة، من أجل التركيز على أخرى والتعامل معها بفاعلية”.
خصائص الانتباه في علم النفس
كما ذكرنا سابقًا، فإن الانتباه هو عملية إدراكية تسمح لنا بإدارة ومعالجة المحفزات البيئية ذات الصلة، وتجاهل ما سواها، من أجل التركيز على مهمة محددة.
ولكي نفهم أكثر أهمية الانتباه كوظيفة معرفية وإدراكية، يجب أن نعرف خصائصه والعوامل المؤثرة فيه.
من خصائص الانتباه في علم النفس:
1– السعة
وتعني كمية المعلومات التي يمكننا الانتباه إليها في نفس الوقت، وكمية المهام التي يمكننا القيام بها في وقت واحد.
تتأثر القدرة على الانتباه ببعض المتغيرات، مثل أهمية المحفز، وعدد المشتتات الأخرى في البيئة المحيطة.
وعلى الرغم من أن الإنسان يستطيع الانتباه إلى عدة أشياء في وقت واحد، إلا أن عدد تلك الأشياء يظل محدودًا، ولفترة معينة فقط، وبعدها قد يصبح هذا الانتباه مستحيلًا. وهو ما يعني أن الانتباه مورد محدود من حيث السعة والمدة.
2- الشدة
وهي من خصائص الانتباه في علم النفس، والتي تعني قوة الاهتمام والانتباه التي نوليها لمحفز معين.
تختلف هذه الشدة باختلاف المهمة، إذ إن هناك مهام لا تحتاج إلى كثير من الانتباه، وتُسمَّى بـ”المهام التلقائية”، وأخرى تحتاج إلى مزيد من التركيز والانتباه.
3- التناوب
التناوب -أو التحول- من خصائص الانتباه في علم النفس التي تعني القدرة على تحويل تركيزنا أو انتباهنا من حدث إلى آخر بحسب الحاجة.
على سبيل المثال، عند ممارسة نشاطين يحتاج كل منهما إلى نفس القدر من الانتباه، فإنه من المستحيل التركيز عليهما في وقت واحد. لذا، يجب تحويل انتباهنا ما بين هذين النشاطين بالتناوب.
وتعتمد فكرة التحول على سعة وشدة كل نشاط؛ أي مدى استحواذ كل منهما على انتباهك في لحظة معينة.
4- التحكم
يمكن أن يكون التحكم في الانتباه إراديًا أو لا إراديًا، بمعنى أنه توجَد بعض الأحداث التي تحتاج نوعًا من بذل الجهد العقلي لكي يحافظ الشخص على توجيه انتباهه إليها، وأخرى لا تحتاج ذلك الجهد، ويُسمَّى الانتباه حينها بـ”الانتباه السلبي أو اللا إرادي”.
5- الانتقائية
لأن الانتباه مورد محدود -كما نوهنا سابقًاـ، فيجب أن يكون المرء انتقائيًا عند اختياره للأشياء التي يحتاج التركيز عليها في بيئته.
ليس فقط انتقاء المحفز الذي يجب الانتباه إليه، ولكن أيضًا استبعاد وتجاهل المحفزات الأخرى الأقل أهمية.
تحدث هذه العملية الانتقائية بسرعة، وفي وقت ضئيل للغاية، وغالبًا لا ينتبه المرء إليها، ولكنها تحدث بشكل تلقائي.
والآن، دعونا نتعمق أكثر في أهمية الانتباه والإدراك في علم النفس، كيف يؤثر الانتباه في حياتنا؟
أهمية الانتباه
الانتباه والإدراك في علم النفس المعرفي أمران متلازمان.
ولكي نفهم أهمية الانتباه، يجب أن نتطرق إلى ما يعنيه مفهوم “الإدراك”.
الإدراك: هو مهارة عقلية تهدف إلى فهم البيئة المحيطة والتعامل معها بفاعلية.
يشمل الإدراك الحواس الخمس؛ وهم اللمس، والبصر، والصوت، والشم، والتذوق. ويتضمن كذلك ما يعرف بـ “استقبال الحس العميق” والتي تضم مجموعة من الحواس قادرة على اكتشاف التغير في وضعية الجسم وحركاته.
يعد الانتباه الخطوة الأولى التي توفر لعقلنا المعلومات اللازمة عن الأمور المحيطة بنا في بيئتنا، ومن ثَمَّ يستطيع العقل حينها معالجة هذه المعلومات وإدارتها بهدف إدراكها.
تصنيف الانتباه
يعني تصنيف الانتباه تقسيمه إلى عدة أنواع، منها:
- الانتباه الداخلي: وهو القدرة على استخدام موارد الانتباه، من أجل إتمام العمليات العقلية الخاصة بك والجوانب الإدراكية الأخرى.
- الانتباه الخارجي: وهو الانتباه المكتسَب من المحفزات الخارجية القادمة من البيئة المحيطة.
- الانتباهُ المفتوح: ويصاحب الاستجابات الحركية التي تسهل وتساعد فعل الانتباه. على سبيل المثال، الالتفات أو تحويل الرأس نحو المحفز الذي نريد الانتباه إليه.
- الانتباه الخفي: ويعني الانتباه إلى محفزات محددة، دون أن يبدو عليك أنك تفعل ذلك.
- الانتباه الانتقائي: وفيه يختار المرء محفزات معينة للتركيز عليها ويتجاهل الأخرى.
- الانتباهُ المنقسم: ويعني القدرة على التركيز على أكثر من مهمة في وقت واحد. على سبيل المثال، قيادة السيارة والاستماع إلى الموسيقى في نفس الوقت.
- الانتباه المستدام: وهو القدرة على الحفاظ على مصادر الانتباه، والتفاعل الصحيح معها.
- الانتباه البصري: وهو القدرة على الانتباه إلى المحفزات الموجودة في مجال رؤيتنا.
اقرأ هنا أيضًا عن الذاكرة البصرية.
- الانتباه السمعي: ويعني القدرة على الانتباه إلى المحفزات التي تشعر بها الأذنين، وهو مرتبط بعوامل زمنية.
إذا أردنا أن نتناول موضوع الانتباه والإدراك في علم النفس من جميع جوانبه، فلا يجب أن يفوتنا ذكر عوامل جذب الانتباه.
عوامل جذب الانتباه
تنقسم عوامل جذب الانتباه إلى عوامل داخلية وخارجية.
أولًا: العوامل الخارجية
تأتي من الخارج، وتجعل التركيز على المحفزات ذات الصلة أكثر سهولة أو أكثر صعوبة. على سبيل المثال:
- شدة المحفز: كلما كان المحفز قويًا، انتبهت إليه أكثر.
- حجم المحفز: المحفزات كبيرة الحجم تجذب الانتباه أكثر من صغيرة الحجم.
- حركة المحفز: المحفز المتحرك يجذب الانتباه أكثر من المحفز الساكن.
- حداثة المحفز: المحفز الجديد والغريب أكثر جذبًا للانتباه.
- لون المحفز: المحفزات الملونة تجذب الانتباه أكثر من المحفزات ذات اللون الأبيض والأسود.
اقرأ هنا أيضًا عن تأثير الألوان على الدماغ.
- التباين أو التضاد: المحفزات المختلفة عن مجموعتها -أو عمَّا يحيط بها- تجذب الانتباه أكثر.
ثانيًا: العوامل الداخلية
وتأتي من داخل كل فرد. لذا، فهي تختلف من شخص إلى آخر. على سبيل المثال:
- الاهتمامات: يلتفت المرء أكثر إلى المحفزات المرتبطة بالأشياء التي تهمه ويحبها.
- المشاعر والأحاسيس: المحفزات التي تؤثر في عاطفتنا هي الأكثر جذبًا لانتباهنا، سواء كانت مشاعر إيجابية أو سلبية.
- الحالة الجسدية: وتعني أن الانتباه يتأثر بالحالة الجسدية للفرد. بمعنى أنه في حالات الإرهاق والتعب يكون التركيز صعبًا.
كذلك في حالة الجوع والعطش، يكون الانتباه إلى المحفزات التي تؤدي إلى إشباع هذه الرغبات أشد جذبًا للانتباه من غيرها.
- الجهد الذي تتطلبه المهمة: يقيِّم الأفراد مسبقًا في عقلهم اللاواعي الجهد الذي يتطلبه تنفيذ مهمة ما، وبناءً على هذا التقييم يتحدد مدى انتباههم.
ختامًا نقول: إن مفهوم الانتباه والإدراك في علم النفس بحر واسع، لن تتسع سطور هذا المقال لذكر كل ما فيه. لكننا حاولنا أن نقدم لكم -بطريقة مبسطة- جزءًا هامًا مما يعنيه ويحتويه هذا المفهوم الكبير، آملين أن يفتح لكم هذا المقال أبوابًا أخرى لاستكشاف المزيد!